الخديو إسماعيل المفترى عليه


شغلتنى كثيرًا قضية الافتراء على الخديو إسماعيل، وتشويه سيرته لأسباب تاريخية، وتشغلنى عمومًا قضية الجهل بالتاريخ، ولى عنق وقائعه لتحقيق غرض سياسى، أو للتلميح بأمر ما، أو تزييف وعى الناس بقضية ما،


دفعنى هذا لأن أكتب مقالًا مبكرًا عام ٢٠٠٨ فى مجلة روزاليوسف بعنوان «رد الاعتبار للخديو إسماعيل» استندت فيه لكتاب المؤرخ الوطنى عبدالرحمن الرافعى «عصر إسماعيل»، ولا أنكر أن الافتراء على الخديو إسماعيل ظل يشغلنى، وأن «التنبيط» على عصره، ونمط التنمية الذى اتبعه، والإشارة إلى الديون التى أسس بها نهضة مصر الحديثة، لا أنكر أن هذا دفعنى لمعاودة الكتابة عنه، إننى سأكتفى بأن أطالب الذين يكتبون عن هذا الرجل العظيم، ببذل مزيد من البحث عن إنجازات الرجل، وما قدم لمصر، وماذا صنع بالقروض التى اقترضها، وكيف كانت صورة مصر حاليًا لو لم يؤسس هذا الرجل ما أسس من مشاريع.. 


يا عزيزى الذى تشهّر بالخديو إسماعيل لغرض فى نفسك أنت تعلمه.. هل تتخيل القاهرة من دون ميدان التحرير؟ الخديو إسماعيل هو الذى بنى ميدان التحرير الذى كان يحمل اسمه، هل تتخيل مصر بدون شارع طلعت حرب، العتبة؟ الفجالة؟ السكة الحديد؟ ميدان العتبة؟ كوبرى قصر النيل؟ كوبرى الجلاء؟ الخديو إسماعيل هو الذى بنى كل هذا وأكثر منه مئات المرات.. أنت لا تعرف التاريخ، لذلك تقول إنه بنى الأوبرا الخديوية والقصور الكثيرة، وهذا صحيح.. لكنه بنى أيضًا عشرات المصانع «منها ١٩ مصنعًا للسكر» 


واستصلح مئات الآلاف من الأفدنة، وزرع عشرات الآلاف من فدادين القطن وهو سلعة استراتيجية وقتها، وحفر ترعة الإسماعيلية، وترعة الإبراهيمية، وعشرات الترع الأخرى، وأصلح نظام الرى، وأسس أول مدرسة لتعليم البنات فى الشرق الأوسط هى المدرسة السنية، واستعان بمثقف عظيم هو على مبارك لتأسيس نظام تعليمى حديث، وأسس مدرسة دار العلوم لتخريج المعلمين، وأسس دار الكتب، ودار الآثار، ومصلحة التليغراف.. وأصلح ميناءى الإسكندرية، والسويس ووسعهما، وتم استكمال حفر القناة فى عهده، وأسس أول مجلس لشورى النواب قبل أن تعرف هذه المنطقة معنى كلمة مؤسسة سياسية بقرنين على الأقل، وأسس المجالس المحلية، وأصلح النظام القضائى. وفى عهده عرفت مصر الصحافة الحديثة، 

والمسرح الحديث على يد يعقوب صنوع، وظهرت صحيفة الأهرام.. فهل تتخيل مصر بدون صحيفة الأهرام؟. لقد عزلت القوى الغربية هذا الرجل، لا لأنه أغرق مصر فى الديون كما قالوا لك، ولكن لأنه كان صاحب مشروع حقيقى للنهضة، ولا أحد يريد لمصر أن تنهض، فلا تكن بغبغانًا تردد ما يقال لك، الخديو إسماعيل نجل إبراهيم باشا ابن محمد على، حاكم عظيم، كان واحدًا من أفراد البعثة العلمية المصرية فى أوروبا،


 ودرس الهندسة، وتخرج مهندسًا، وفهم أن على مصر أن تلحق بركب النهضة وأنها تستحق هذا، أدرك أيضًا أن مصر تستحق الاستقلال عن العثمانيين وأن الغرب لم يسمح لها بنيل الاستقلال بطريقة عسكرية، فقرر التفاوض وشراء الاستقلال من الخليفة بالنقود، ولا يعيبه هذا، ولا يقلل منه، قرر الرجل الطموح أن يبنى إمبراطورية عثمانية فى إفريقيا، ولم يحالفه التوفيق فى كل ما أقدم عليه، ولجأ إلى الاقتراض لتمويل مشروعاته الطموحة، لكن الحقيقة أن كل القروض تم تسديدها بسهولة ويسر خلال عقود قليلة، وبقى لمصر ما أنجز الرجل، حتى القصور التى بناها، ما زالت من أصول الدولة المصرية نباهى بها الأمم ونصطحب لها الضيوف الأجانب لنقول لهم هذا نحن وهذا ما لدينا، لقد تعرض الرجل لمؤامرة بريطانية، حيث ارتبكت ماليته، ولكنه لم ينهر، ولا فشلت مصر فى عهده، ولا أى شىء، كل ما حدث أنه مع تصاعد النفوذ الاستعمارى جاءت بعثة مالية بريطانية باسم بعثة «كيف» قدمت استشارات للخروج من الأزمة، وأرسل الفرنسيون بعثة أخرى قدمت نصائح مختلفة، وكان إسماعيل مثل جده ميالًا لفرنسا، فأزمع على الأخذ بالنصائح الفرنسية،


 وهو ما أدى لسعى البريطانيين إلى عزله، وساعد على ذلك مناخ من الفوضى قاد إليه تسامحه السياسى، ودور غامض لعبه جمال الدين الأفغانى، الذى شكك كثيرون فى دوافعه، وقد كان يرعى تنظيمات لم يكتب تاريخها كاملًا حتى الآن.. وضاعف من الظلم الذى تعرض له الرجل أن ابنه ورث الحكم من بعده، ولم يكن من مصلحته إنصافه، ولم يكن ذلك من مصلحة الإنجليز الذين خلعوه، ولم يكن من مصلحة ثورة يوليو التى خلعت أسرة محمد على بكاملها، ولم يكن من مصلحة مناهج التاريخ فى مدارسنا التى صورت تاريخ الأسرة العلوية على نحو بالغ السوء، وصل إلى درجة التهريج أحيانًا، 


ولم يكن من مصلحة بعض هواة التاريخ الذين يتشدقون بموضوع الديون التى حصل عليها الرجل وبنى بها مصر التى نعرفها، دون علم، أو فهم، أو دراسة.. رحم الله خديو مصر العظيم، وواحدًا من الحالمين بنهضتها، والمجد لكل من يحلم بنهضة هذا الوطن، دون الإصغاء لعواجيز الفرح ولائكى الأكاذيب، الذين إذا قرأوا لم يفهموا، وإذا فهموا لم ينصفوا.

بقلم : المؤرخ علاء الموارنه